توائم غرباء وأكوان متعددة

“في ميكانيكا الكم يكون حال أي شيء قبل قياسه غير محدد. مثلا قبل أن تفتح الثلاجة تكون حالة ذرات الطعام غير محدده، فتكون لها عدة سرعات في نفس الوقت وعدة اتجاهات وعدة مواقع، فقط في الحظة التي تفتح وترصد ما بداخل الثلاجة، ينهار تراكب حالة الذرات وترى حالة واحدة! هذا التفسير الغريب مقبول تماما لنا اليوم، لكنه يطرح إشكاليه: عندما تفتح الثلاجة، تنهار جميع حالات التراكب وترى حالة واحده، أين تذهب بقية الحالات أو الاحتمالات؟”

هل سمعتم من قبل عن نظرية الأكوان المتعددة؟

النظرية باختصار تقول أننا لسنا وحدنا، بل هناك أكوان أخرى لا نهائية نتيجة امتداد الزمكان. بمعنى أن هناك نسخ أخرى منك بعدد لا نهائي. بعض هذه التوائم ستفعل مثلك تماما وبعضها على الأرجح متجمد. دعمت هذه النظرية العديد من النظريات الفيزيائية والقوانين الكونية مع اختلاف الظروف. لتفهم هذه الفكرة، تخيل أنك طلبت من جميع سكان كوكب الأرض أن يخلطوا ورق الكوتشينة، هل يحتمل أن يكون هناك شخصين سيخلطون الأوراق بنفس الطريقة؟ بمعنى أن الأوراق بعد الخلط ستكون بذات الترتيب؟ نعم، لكن هذا الإحتمال سيحدث مرة كل (1 وأمامه 67 صفر). تخيل عدد لا نهائي من الأشخاص. ستتكرر نفس الخلطات. هذا تماماً ما يحدث مع الذرات والجزيئات عندما تخلطها بشكل عشوائي. ستخلق أرض أخرى وأنت آخر بعدد لا نهائي. فكرة غريبة، لا بأس من حقك معارضتها، فقد تصارع العلماء وأينشتاين عليها، اتفضل اتصارع ياحبيبي.

لنفترض حقيقة هذه النظرية لبعض الوقت. حسناً؟ ما الذي جعل العيش في هذا العالم مختلفاً عن العيش في عالم آخر؟ من بين كل الاحتمالات الممكنة، لماذا كان كوننا بالشكل الذي هو عليه؟ للإجابة على ذلك، هناك ما سماه العلماء “المبدأ الأنثروبي”. يقول هذا المبدأ أن الكون الذي نعيش فيه يحتوي على مجموعة من العوامل المختلفة، قيم ومعادلات وقوانين تجعله مكانا قابلا للحياة، لو أن خللا بسيطا أثر في أي من هذه القيم أو المعادلات أو القوانين لخرجت النتائج بشكل مختلف. واحدة من وجهات النظر تقول أنه إن لم يكن كوننا مناسبًا لاستضافة الحياة، لما كنا موجودين هنا لطرح ذلك السؤال. فإذًا من غير المنطقي أن نسأل لماذا. حسناً ربما لم يكن الكون ليسمح بتطور الحياة الذكية لولا حسن الحظ، وعليه فإن المبدأ الأنثروبي هو محاولة علمية للنظر في إجابة السؤال “لماذا؟”.

لماذا موقع أرضنا كان على هذه المسافة من الشمس وبشكل يتناسب مع العيش عليها؟ فلا هي بالقريبة حد الإحتراق ولا بالبعيدة حد التجمد. ماذا عن بقية الأكوان المتعددة؟ كيف هو شكل العيش عليها؟ بالطبع يختلف. في تفسير مبسط لهذه الفكرة يقول تخيل حفرة بها ماء في الصحراء، وقمت بإلقاء كرات من الأعلى بشكل عشوائي، سيكون هنا احتمال لسقوط إحدى الكرات في الحفرة، ولنفترض كانت الأجواء مناسبة فنمت فطريات على الكرة، ولنفترض أن الفطريات ذكية، وإعتبر أن ليس لها القدرة على النظر خارج الحفرة، ماذا تتوقع أن تفكر؟ ستتساءل بالتأكيد عن الصدفة التي أسقطتها في هذا المكان وستبحث عن تفسير علمي وستصطدم بالمبدأ الانثروبي وستشعر بأن لا شيء من هذا قابل للتصديق وهذا ما يجعله أكثر إثارة. حسناً لقد أردت كتابة مقدمة قصيرة قبل الحديث عن فيلم وثائقي شاهدته مؤخراً لكن لا أعلم ماذا حدث. لنتحدث بجدية الآن..

ماذا لو كان بُعدك عن توأمك الآخر الذي ستتمكن من النظر في عينيه ومعرفتك هو السبب في هذا الخواء الذي تشعر به الآن؟ أعني ماذا لو أن الحب وتكوين العلاقات وتربية الحيوانات والتشبث بوالدينا هو سعي منا لملء هذا الفراغ؟ فراغ الوحشة والغربة عن النفس، هذا الخوف الذي نتجنبه لأننا في الحقيقة لا ندرك من نحن ونحاول الزيغ بكل السبل. كان هذا التساؤل الذي خطر على بالي بعد مرور ساعة من الفيلم الوثائقي three identical strangers.

يتحدث الفيلم عن ثلاثة أطفال (بوبي، ديفيد، إيدي) تبنتهم عائلات مختلفة، ثم في عمر العشرين وبالمصادفة تبيّن أنهم في الأصل ثلاثة توائم حيث التقى اثنان منهم في الجامعة، ثم قادهم خبر في الصحيفة إلى شقيقهم الثالث. التقوا ببعضهم وصاروا مثار الحديث وقتها، خرجوا كثيراً في الإعلام، عاشوا سوياً، خرجوا في فيلم في مشهد يقومون فيه بالغمز لمادونا. قبل التقائهم كانوا يشربون نفس نوع السجائر ويتصرفون بذات الطريقة. بعدما التقوا عاشوا حياتهم، جنس وشراب وشهرة ثم زواج وعمل وافتتحوا مطعمهم الخاص. لكن بقي سؤال، لماذا لم يقم مركز التبني بإخبار عائلاتهم بشأن هذا الأمر؟ أن هذا الطفل الذي ستقومون بتبنيه ماهو إلا واحد من ثلاثة توائم متماثلين؟

بعد وقت تبيّن أنهم كانوا فئران تجارب. كانت دراسة قام بها أحد الأطباء ليرى الإختلاف الذي سيحدث لو تمت تفرقتهم عن بعضهم. دراسة لسلوك التوأم المتماثل. ليسو هم فحسب، بل شملت التجربة توائم أخرى. لحظة تكشّف هذا الأمر جعلهم يدركون الكثير من التصرفات التي كانوا يعانون منها في صغرهم، على سبيل المثال، كانوا يصرخون لفترات طويلة ويضربون رؤوسهم في الحائط. والتي تبدو لهم الآن كرغبة خلقت معهم للوصول لبعضهم، تصرف طبيعي من شخص أخذ بعيداّ عن شقيقه لإجراء التجارب عليه. بطبيعة الحال تسبب هذا الأمر بحزن لهم ولعائلاتهم.. خرج هذا التساؤل الآخر في رأسي، لماذا كانوا يضربون رؤوسهم ويصرخون؟ لماذا نشأت تلك الرغبة؟ ولماذا شعروا بتلك الراحة عندما التقوا ببعضهم وكأن البعثرة قد وجدت مكان يناسبها؟ آلان واتس يقول –بتصرف- أن أكثر معضلة وجودية مدهشة هي: “مَن أنا؟” يستطرد قائلاً أن الإنسان غامض، غموضه يرتد عليه، أي أنه لا يدرك نفسه تماماً كما يظن، لا يعلم طعم لسانه، لا يمكنه النظر في عينيه أو وجهه دون وسيط، لا يمكنه لمس طرف اصبعه بنفس طرف الإصبع. وهذا الأمر يبعث على الدهشة في محاولتنا لمعرفة ذواتنا. في تغريدة قرأتها كان صاحبها يتساءل بسخرية: هل أنا انعكاس المرآة أم الإنعكاس على نافذة السيارة أم وجهي في عدسة السيلفي أم في الكاميرا الإحترافية أم انعكاسي على وجه الماء؟ من أنت؟! أنت الشخص الذي لن تتمكن من رؤيتك بنفس الطريقة التي يراك بها من يجلس بجانبك!

في النصف ساعة الأخيرة من الفيلم قابلوا أحد المشرفين الذين كانوا يتابعون التجربة، كان يلتقي بهم باستمرار ويقوم بعمل اختبارات نفسية لقراءة سلوكهم. لأسباب ما، ترك هذه التجربة بعد ستة أشهر. يقول أن التجربة أصلاً لم تكن لدراسة سلوكهم، بل كانت لدراسة تأثير العائلة على الفرد. حسناً لنعد قليلاً.. (بوبي) كانت عائلته تقليدية بعض الشيء من الطبقة الراقية، والده يعمل طبيباً ولا يملك وقتاً لمجالسته إلا أنه كان عطوفاً بحد وصفه، ووالدته محامية. كان الشقيق الأكثر جنوناً بين الثلاثة. الشقيق الثاني (ديفيد) امتلك ثقة والده وشخصيته المحبوبة وكرمه، ملأه والده بالعطف والحب والإهتمام. كانت عائلته مهاجرة من طبقة العمال. والده كان الأكثر مرحاً والذي يقضون معه أطول فترة من بين الثلاثة آباء. أحدهم وصفه بقوله “كان أكبر من الحياة”. أما الشقيق الثالث (إيدي) كان شخص عاطفي، لطيف للغاية ومليء بالدف والحب، لم يتحدث كثيراً عن والده كما فعل أشقاؤه. عائلته من الطبقة المتوسطة، والده تقليدي للغاية، منضبط وصارم، نوع العائلة التي لا تتشارك شيئاً بينها. كانت زوجة إيدي تقول أنه كان يشعر بأنه وُجد في المكان الغير مناسب.

-بلوت تويست-

أقدم (إيدي) على الإنتحار. كان يعاني من مشكلة في صحته العقلية والتي حصل عليها من والدته البايولوجية. يقول والده بالتبني بحزن بالغ: “اتساءل كثيراً عما اذا كنت لم أعلمه شيئاً بسبب الطريقة التي رحل بها. لا أعلم، ربما لم أعلمه كيف يحيا.” . بقي شقيقه يتساءل “لماذا هو وليس أنا؟” لينتهي بأنه لم يعرف أبداً إجابة لهذا السؤال. هذه الأسئلة التي لا نملك لها إجابة هي عزاؤنا. هذا الجهل عزاؤنا. غربتنا عزاء وضعفنا عزاء. تذهلني بشكل ما أمنياتنا المستحيلة التي نقولها لأحبابنا حتى يستكين شوقنا بها قليلاً، ياريتني حمامه وأجي لك، ياريتني نسمة هوا وأزورك. هذه الأمنيات الغبية –كما أحب أن أسميها- هي كل ما نملكه أحياناً، خيالنا عزاء لنا، خيالنا هو ما يسع حبنا أحياناً، هو ما يسع البعد. وفي فقدنا نتمنى لو كنا نحن بدلاً عنهم، ونسأل الكثير من الأسئلة التي لا نملك لها إجابة. لماذا يا الله؟ ونصمت بعيون مشدوهة منتظرين إجابة. نحن ضعفاء ولا أعلم إن كان إيماننا إجابة، لكنه عزاء بكل تأكيد.

يبهرني ارتباط الإنسان بوالديه وبنشأته. واحدة من متع الحياة التي أخوضها مع نفسي هي تخيل نوع الوالدين وشكل النشأة عن طريق تصرفات وردود أفعال الأشخاص. وتخيفني، تخيفني قدرتي على قراءة الآخرين وشكل الحياة ومقدار التفاصيل التي اتنبأ بها. لكن لا أتمكن أبداً من التنبؤ بتصرفاتي وحياتي. لدي قدرة كبيرة على قراءة تصرفاتي القديمة وفهم كل ما مررت به وتحليله، بإمكاني الكتابة دون توقف عن ذلك، لكن ليس التنبؤ بما هو قادم. إرادتي في عيني حرة، لكنها على الأرجح ليست كذلك في عيون الآخرين. لا أعلم، أنا فقط أحاول وضعها في جملة واحدة. أشعر أن هذا هو التفسير الوحيد لإستمراركم بسرد تجاربكم المملة علينا وامتناعنا المتكرر عن خوضها وإصرارنا في كل مره على خوض تجربتنا الخاصة. ثم تعودون لإخبارنا أنكم قد حذرتمونا من هذه النتيجة.. نعم نعم! بكل تأكيد هذا هو التفسير! أنا لا أراني بنفس الطريقة التي تراني بها عيناك، لا نشعر كلانا بنفس الطريقة، وتفاصيلنا تختلف.. ياجزمه انت وهو.

أضف تعليق