عمري الذي أراه ينوي أن يطول بلا مُسوّغ

(2)

هذه العبارة قالها إبراهيم المازني في حكاية من حكايات “صندوق الدنيا” وهو يحكي أول ذكرى له بين رجال الليل حين كان في الثالثة عشر من عمره. إن لم يكن إقتباس عبارة من كتاب ووضعها عنوانا لنصّ لي يبيّن مدى إعجابي وإمتناني له، ويكأني طباخ يقدم صنيع يديه لمعلمه، فلا أدري ما الذي يمكن أن يفعل. هل هناك ما يمكن أن يجيّش فيه الإنسان تقديره وغبطته وشعور الإجلال أكثر من اقتلاع سطر خارج سياقه، والتعامل معه كتحفة بحالها؟ لا أظن. على كل حال لا أختلف كثيراً مع المازني، فحتى عمري يطول بلا مسوغ برغم اختلافات سياقاتنا وأعمارنا، سنوات تغدو خِماصاً وتعود خِماصاً، أيام تشبه في جمودها اليوم الطويل.. يقولون أن فترة العشرين لا تفتأ تتقلب حتى لا تذر غرساً إلا وتهيله، ولا إصبعاً إلا و تَمصّ منه الحياة، سنوات لا مفر فيها من الضياع والخسارة، طوفان لن يترك فينا خيراً إلا ويفقأه، فنُولد بعده ولادة جديدة.. يقولون ولا يتوقفون عن إعادة القول، ويكأن لنا في تلك الحقائق عونا أو معنى أو عزاءا.. ياعم الفهيم اسكت وسيبنا في حالنا بقى، اللي فينا مكفينا ياسطا..

بدأتُ هذه السنة كمن يعتزم ذبح خروفه صباح العيد، شلحت ثوبي واستأصلت غرغرتي واستعرت من الجزار شِدّة قلبه، وقفتُ مُدَرّعاً بخططي وأهدافي، فرشت خرائطي التي رسمتها لتشرب الدم الحار وتأكل من الجثة رفساتها حتى تهمد، بسم الله والله أكبر، القُبلة، القبلة!

فلتكُن قِبلة إذن والشكوى لله.. نويتها صلاة وإنابة يا رب الأرباب! عمّدت آمالي في لجة نفس لا تنأى عن المدّ والانحسار كل ليل، شحذت صبري بعنتريتي، واستللت سيف عزم وضّاح من غمده الأفول.. جهّزت الفُكاهة في جيبي لانثرها كل حين لصيصان الأحلام، اِكبروا يا حبايبي وقهقهوا، اِكبروا وفرّحوا بابا.. لا أريد أن انشغل بمواقع التواصل والشكوى والضحك على النكات، أو تدوين تقلباتي اللحظية فتنقلب في نفسي إلى ما يشبه الوهم، لقد أخذت كفايتي! أتمتم بيني وبيني.. إياك! شُدّ، شُدّ ساعديك واحكُم قبضتك! ثم اَضحَك.. بتتكلم بجد؟! أعني ما الفارق بين اليوم والغد إلا تاريخ إفرنجي موضوع، لو حدقت فيه لوجدته بلا معنى؟ وما معنى العمر -لإنسان بسيط يتكاسل عن البحث- إلا رقم اخترعه الإنسان ويزيده واحدا كل ثلاثمئة وخمس وستون يوما؟ ياللإفرنجة والأهرامات وعلم الفضاء والأرقام! ومن قال أصلا أن الإنسان يمكنه أن يحقق بين ليلة وضحاها تغيراً جذريا؟ انت اتجننت يابني؟ والله لو انك سوبرمان انت ووجهك! أنفث الزفير بإمتعاض كوني لا أتوانى عن إحباط نفسي حتى في اللحظة التي أحتاج فيها أي عون. انت ما بتحبش نفسك ليه ياسطا؟ وأُخفي إبتسامتي.. مَن قال ذلك؟ سامحك الله، وأزمّ شفتاي أكثر.

ومن دون إبحار في دلائل العمر ودائرة الزمن والفصول ومعاني السنين وتمثلاتها في الفلك، ومن دون الحديث عن الترابط بين عناصر الأكوان والمجرات وبديع صنع الله، أظن أنها بأقل تقدير وبأكثر معنى ميلودرامي مبتذل: هي فرصة جديدة، أو حياة جديدة إن شئت.. فحتى نقي أنفسنا العثرة ونرحمها لا بُد من تقسيم الأيام وإحداث قَطع بين مرحلة وأخرى لنعيد ترتيب أبجديات الروح، ولا أرحم على النفس من قَطعٍ الموت الأخير. نقسّم الأيام لأسابيع وشهور وأعياد وإجازات.. شيء شبيه بالنوم ثم البدء في صباح اليوم التالي بروح مغسولة في إغفاءة حلم، نبدأ اليوم طامعين في الخير بأنفاس فتيّة وإبتسامة طريّة ولهفة لم تقمّرها الشمس ودماثة البشر بعد، قابضين على ساعات الصبح الأولى بشراب دافئ يغسل بقايا برد الأمس، نسير طواويس غير عابئين بالموجودات، إلى أن نعود مساءا كالصراصير حاملين فوق رؤوسنا الطين؛ وجهٌ مُكفهر وأقدام متورمة من عبء المسير وكُتل الغضب.. دا كان يوم ابن وسخه! نغسل الجسد من درن الرأسمالية، نحمّم معه الذاكرة ونشطف دمامل الغيظ، فترجع النفس لهُداها بدوار لا يُشفى إلا بغطسة في المنام، تغيب شمس السماء تماماً كما تغيب عنّا خنفسة المدير وطنين الزملاء.. في المنام يذوب تعبنا كله، فنستيقظ كمن لم يكن بالأمس يستصرخ.. اااه وأنا أريد ذلك! أريد أن تكون بداية العام يقظتي، فقد اكتفيت الاستصراخ والاستنجاد. سأتعلم نقع نفسي والتمدد بالإحتياجات اللازمة لمكابدة هذا الوجود، لكن يجب أن أفتح عيني أولا! الحكاية ليست في الزمن بل بما نحققه في هذا الزمن كما قال إنديانا جونز. والأيام التي لا نعيش فيها أحراراً من تسلطات الداخل والخارج هي أيام لا تُحتسب.

(3)

“اقرأ يا بني، اقرأ، ثم اقرأ، حيث لا فاصل بين القراءة والنجاة”

بدأت السنة برواية جاسوسية تقع في قرابة السبعمئة صفحة؛ “الطبالة الصغيرة” للروائي جون لوكاريه، كاتب بريطاني بدرجة جاسوس كما وصفته إحدى المقالات. لطالما وددت قراءتها وكان السبب الأول الذي ملأني بتلك الحماسة هو ارتباطها المباشرة بالصراع الفلسطيني، ولأني قرأت عن تفاني المؤلف حيث ذهب لفلسطين وعاش هناك بعض الوقت حتى يتشرب ويفهم جيدا أبعاد الواقعة التي ينوي حكايتها. اِنتهيتُ منها بعد أسبوع لم أتوقف فيه عن تدوين اليوميات وتحديد الاقتباسات وتسجيل أسماء الشخصيات ومهنة كل واحد منهم، كل هذا حتى لا اضيع وحتى أُحكِم قبضتي جيدا على الأحداث وغموضها وتنقلها المستمر بين البلدان، بعض الشخصيات كانت تحمل إسمين وأكثر وكأن الأسماء توّزع عند ناصية الشارع بالمجان.. كانت ترجمة الكتاب شبيهة بترجمة قوقل، ركيكة البنية وصعبة الاستيعاب، أكاد أرى المصطلحات باللغة الأصلية لدرايتي بها، بل وتخيّل صياغة عربية أخرى أجمل وأكثر سلاسة من المكتوب، ولا أدري إن كان هذا أمرا جيدا أم لا، أو إن كانت غرابة السياق تلك تزيد من رصيد المترجم لقدرته على نقل النص برونق التعابير الأصلية..؟ هو أمر جدلي بلا شك، والحقيقة أني لم أنزعج منه، لم يُنقص كثيرا من قيمة الكتاب ولا من حماسي أو متعتي في قراءته.. وبصراحة لا أدري إن كانت تلك محاولة مني للتعايش والقبول بما تلقيه الحياة من هراء وأشياء غير مفهومة في طريقي.. أم حفاظاً على ماء وجهي وعدم السماح بشيء كهذا أن يغلبني وأنا أحاول قراءة كتاب بهذا الحجم في بداية أطمع فيها كثيرا.. أم لأني اكتشفت بمحض الصدفة أن في حوزة المترجم رواية أخرى أحبها جداً، وحالها كحال هذه، لم تشكل ترجمتها أية مشكلة بالنسبة لي. بالمختصر: أحببت الرواية كثيرا! ولأني أنهيتها في وقت قياسي، وضعت لنفسي مكافأة بعد الانتهاء، والمكافأة هي أن أشاهد فيلما يابانيا مدته أربع ساعات، شاهدته واندهشت وتشبّعت و رضيت عن الدنيا، واندفع قلمي جاريا، فكتبت ما يقارب الثلاث صفحات أصف فيها شعوري وأجاري المعنى وأطوّعه، قرأت عدة مقالات وبحث مترجم وفصل من كتاب في سبيل هذه الصفحات، ثلاث صفحات اختزلت فيها معانٍ كنت أتوق لأن يقرأها أصدقائي ويخبروني عن رأيهم بها.. ولعلّي.. ببلاهتي لعلي، نسيت حفظها وذهبت للنوم، وبعدما استيقظت وجدت الجهاز أعاد تشغيل نفسه وكل المكتوب قد ضاع، في طرفة عين ضاع، آه ياخيبتي ياحوستي… حاولت التواصل مع المُصنّعين لأجد طريقة لإستعادة ما كتبته لكن ما من فائدة، كان من الهين عليّ تحطيم الجهاز السافل وتفتيته.. استسلمت بغضب كمن تعرّض للخيانة، حذفت كل مواقع التواصل وقطعت الانترنت يومين كاملين حانقاً من التكنولوجيا ومذلّتها، اللعنة عليها، حتى هي تذلّني بالنسيان وتعايرني بشتات الذاكرة؟ آه يا ابنة الحرام يا خنزيرة! بعد ثلاثة أيام استعدت رباطة جأشي واعترفت لنفسي بخطئي في الإهمال والنسيان بينما أرمق مايكروسوفت بنظرة ملؤها الشكّ والاحتقار، فقدان الثقة هذا لن يعود يا بيل غيتس، أسمعت؟ أخبروا هذا اللعين ابن الخسيسة أن الأيام ستسوي ما بيننا.

بعد هذا الكتاب قرأت “أسطورة الكتابة: كتاب ينقذ طفلا” وهو مشروع بهدف إنساني وتوعوي يعود ريعه لضحايا الحروب، عبارة عن رسائل للصغار والكبار، تحمل في طيّاتها تجارب وشواهد عَبَر بها أصحابها إلى ما هم عليه اليوم، يحكيها نخب من الكتّاب حول العالم وتدور في فلك القراءة والكتابة، رسائل تحمل فيها الكثير من المحبة والسلوان للطفولة المعذبة في ثنايا الحرب.. دعوني اختصر القول أني أكره المشاريع الطموحة والجميلة عندما تديرها يد كسولة ومملة كهذه.. لكن للإنصاف، الكتاب فيه عدة مقالات جميلة وعبارات ملهمة.

قرأت مسرحية “سيرانو دي برجراك” فرنسية الأصل عرّبها المنفلوطي على شكل رواية تحت اسم “الشاعر”. وهو كتاب قصير لا يتجاوز المائة وخمسون صفحة، لذيذ وباذخ الجمال، مليء بالشعر والحب والوفاء والكوميديا، يلامس فيه المنفلوطي شغاف القلب بأوصافه المطرية الهدّارة. المسرحية تحولت لفيلم فرنسي عام ١٩٩٠ بنفس الاسم الأصلي، وهو الآخر لا يقلّ جمالا عن الكتاب. شاهدوه، أو اقرؤوا الرواية، ومن لم تعجبه الحكاية أعانه الله على نفسه. هوليوود أيضا أنتجت فيلم اسمه “روكسان” ١٩٨٩ من بطولة ستيف مارتن، مقتبس من ذات المسرحية لكن في قالب زمني عصري.. لم أشاهده بعد لكن سأفعل بإذن الله.

في محاولة مني لفهم معاناتي ولمسها، انتقيت كتاباً من بحر علم النفس: “التعايش مع الخوف: فهم القلق ومعايشته” وتماما كما يصف العنوان، كتاب يغوص في الخوف والقلق بالتفاصيل والأمثلة المملة، أنهيت نصفه وأجلت النصف الآخر لوقت لاحق بعد تعثري في كتاب للدكتور سيد صبحي “الإنسان وصحته النفسية” وهو كتاب أريد الحديث عنه طويلا لشدة وقعه على نفسي، قام الدكتور متفضلاً بتعريتي حد شعوري بعدم الأمان، خطوة واحدة كانت تفصله عن مناكحتي. ربما سيكون من نخبة الكتب التي قرأتها هذا العام، سأتحقق من ذلك بعد أن أرى ما سأفعله بهذه المعرفة.

قراءتي الأخرى كانت لكتاب “صندوق الدنيا” لإبراهيم المازني، وكحال كتاب “وطني صحراء كبرى” لإبراهيم الكوني ودواوين نازك قلبي الملائكة، سأبقيه على مقربة من ذراعي وسأعيد قراءته في القريب العاجل بلا شك.. يحكي فيه المازني شذرات من حياته على شكل حكايات متفرقة، بلغة فاتنة وأسلوب كوميدي بديع.

(1)

“إن الذات البشرية تعرف أن وجودها متناه عرضي، محدود موقوت مجعول للفناء.. فوجودي هو الشيء الوحيد الذي أملكه، وهو أيضاً الشيء الوحيد الذي أنا مُعرّض لفقدانه في كل لحظة..”

اكتب يوميات لزجة ومرتجفة، في كل ليلة بعد الانتهاء من كتابة اليوم، أشعر بالإشمئزاز من نفسي لا الراحة ولا السكينة.. يلعن أبو التدوين والكتابة لو كانت بالشكل ده! أتمتم في نفسي وأقوم من سريري لنفض جسدي من بقايا اليوم، أنا محشور في نفسي أيتها الصفحات المتباهية ببياضها!

القارئ لي هنا أو على تويتر، ربما يملك لمحة عن درجة الشتات والدمار التي حلّت بي برغم محاولة إخفائي ذلك وامتناعي عن الاشارة بصراحة للمسببات، كانت حياتي تهبط سريعا على مدار العام، وازداد الهبوط تسارعاً في آخر ثلاثة أشهر على وجه الخصوص.. ويسأل سائل: إلى أين يا حبيبي كنتَ تهبط؟! في الحقيقة لا أدري، لكن حالتي كانت تسوء بشكل خطير. نعم، كتاباتي التفاؤلية التي كتبتها هنا وهناك لم تتجاوز اليوم الذي كتبتها فيه، كان عام كامل من الهزائم والانهيارات، كل الذي استطعت تحقيقه فيه هو القدرة عن الحديث عن حزني بصراحة ومن دون إخفاء وجهي، انظروا هناك في رأس الصفحة (أو ذيلها) ستجدون وجها خجولا! بكتابتي التدوينة السابقة وبعد نشرها شعرت أن دوري هنا قد انتهى، قاموس كلماتي لم يعد يسعه المزيد من الأوصاف والشعور، لم أكن ارغب بالحديث مجددا، وهو أمر غريب بعض الشيء عندما أفكر فيه الآن! كنت أقول في نفسي: هذه المرة أكيدة، لقد وصلت لأقصى القاع بالفعل، هاهو ارتطمتُ فيه والوجع اَلمِسه في طيزي! ذات الارتطام الذي كنت اتحدث عنه في آخر ثلاث سنوات على الأرجح.. والمفاجأة التي لم تخبرني خالتي، أن مجاراة الحزن لا تفعل سوى توليد المزيد من الحزن، هكذا بكل بساطة، وهو ما أكده لي وجع شديد داهمني في منتصف يناير.

(5)

لن أنهي كلامي بمحاولة استنطاق الفلسفات والحِكَم، أو التأكيد على قول ‏“لا أظنّ أن إنسانًا يستطيع أن يدّعي أنه عاش الحياة ما لم يجرب فَقْد الحياة، ثم استعادة الحياة” لأني لا زلت أبعد ما أكون عن الحياة. لن أحاول الاحتفاء بشعوري اللحظي والصعود للغيم بعبارات مُجنّحة أهوي بعدها.. لا أريد الإشارة لما قرأت والقول أن ‏“الكتب تمر بنا بتوقيت مرتبط تماما بأقدارنا و أفكارنا. الكُتُب جزء مهم من القدر، لا شيء يمر بنا عبثا” فأنا لست واثقا من ذلك بعد.. وإن كان هناك شيء تعلمته خلال هذا الشهر فهو: من الصعب جداً خلق روتين والإبقاء عليه.

لكني في غمرة الشعور ادعو الله أن يعينني على نفسي، وأن يعطيني البصيرة والنور لأفهم ما وراء السطور، وأن أجد لي في كل تلك التقلبات والمحاولات معنى أعيش وآمن فيه، لا أن استمر بالعيش عيشة جنائزية أعزي فيها نفسي بالموت.. لا زلت أترنح في سعيي، لا زالت الأشياء مكبّلة في الغياب، أناديها فتعوي ويسلب هذا العواء هدأة النَفَس الزقزوقة، فتتكدس في الصدر تنهيدات لو ناكفها الخوف لانقلبت صياحاً طفوليا مخجلا.. هل تنقذ القراءة ذاكرة..؟ هل تنقذ الكتابة روح نافرة..؟ هل يستطيع الشِعر أن يعبُر بالنفس لهدأة سَحَر..؟ هل بمقدرتي أن أطوّع معرفتي في سبيل المعنى..؟ لا أدري، لست متأكدا من الإجابة.

اُذَكّر نفسي كل صباح أن الحياة «مَسِير» لا «تفسير» .. أسير بحذر وبصبر هزيل، أسير وأؤكد لنفسي بسيري أن الحياة «وجوب» أكثر مما هي «وجود» .. وأن الذات البشرية «مقدرة على الوجود» أكثر مما هي «تحقيق لهذا الوجود» .. فالحياة «قيمة» لا مجرد «واقِعة». ومن يدري ما في النفس من إرادة ومافي القدر من خبايا.. لا أريد أن يطول عُمري بلا مسوّغ!

(4) كتاب أخير

“ولكن الجوع إلى الغرس لم يمت في الوجدان”

قرأت كتاب “روح البُعد المفقود” لإبراهيم الكوني، يحكي فيه عن الفترة التي قضاها في جبال الألب مع زوجته مريم وعن هوسُه بالطبيعة والزراعة، يفتّش في الجمال والزَهر ويمارس الفلسفة والتأمل محاوِلاً جسّ نبض الموجودات.

يُعيد الكوني كتابة الطبيعة وارتباط الإنسان بها، ويشير لحريتنا البعيدة المرهونة بحرية النبات والحيوان، وعن نسياننا الأرض وطينها في غمار العولمة.. فصار كمن خَطّ مفردات يتعالج من خلالها القارئ برحمة الطبيعة، ويعبر من خلالها إلى روح النبات.. يُمسك الكوني فيه بزهرة ويستقرئ في كل جزء منها، يسهب طويلاً في قراءة المشهد إلى أن يحلحل به الوجود ليسمو بجَنان القارئ وينأى به عن كل غنيمة يطمع بها على حساب القيمة.. يستجلب المعاني والجمال من كل بُعد في جبال الألب، ولا يتوقف عن العودة لبحبوحة القلب رغماً عن جساءة الوجود.. في كل ترحال يحمل قلبا مرابطا وحِساً مرهفاً بالموجودات.. يرى ألمه في عود تفاح مغترب، فيستعيد هويته المفقودة بغرس هذا العود، لتكون الشجرة شفاء لتيهٍ في نفسه قد طال.

ااااااه هذا الكتاب حبيبي، قرأته لصغر حجمه ولتحضير نفسي لقراءة سيرته الذاتية، وعلى غير المتوقع، وجدته سهل الاستيعاب عميق المعنى ومرهف الحس كثيرا، تماما كما أحب الأشياء أن تكون. هذا أجمل كتاب قرأته عن الطبيعة والزهر (هذا الكتاب الوحيد الذي قرأته عن الطبيعة والزهر). انتهيت منه وأنا أتمنى العيش وسط الطبيعة لأغسل روحي من ضجر المدينة الشمطاء، تمنيت حديقة صغيرة أُربّيها وأربو فيها، أشهد تقلبات الفصول عليها، أعبد الشمس بين أغصانها وأغرس تلاواتي مع البذرة في رحم الطين.. أُطَمئِن البتلات الشقية حتى لا تفتن بينهم نار الغيرة، أُجاري الطير بهمهمة الأغاني، وأمسح على الأرض لتطمئن الأجِنة في جوفها.. فتطمئن نفسي، ويصحو في جوفي أبٌ شاطر عندما ألمح خصلة خضراء مرهفة تشق طريقها لهفةً للسماء، هيا هيا اكبري يا شجرة! شجرة تتأصل بجذورها جذوري، إذا أينعت هي أشرقتُ أنا، تُزهِر فأحس بزهرها في داخلي.. الشجرة الوطن، أو الشجرة الحياة، أو الشجرة الضمادة، للطبيعة ولي.

رأيان حول “عمري الذي أراه ينوي أن يطول بلا مُسوّغ

أضف تعليق